في يناير/كانون الثاني الماضي، أنشأت الحكومة البريطانية هيئة جديدة باسم "مجلس القوة الناعمة للمملكة المتحدة" بهدف تعزيز النفوذ الدولي للمملكة المتحدة. ضم المجلس شخصيات ثقافية بارزة، وكان من المفترض أن يعمل بالتنسيق مع مؤسسات بريطانية أخرى، من بينها العائلة المالكة، لتعزيز مكانة بريطانيا العالمية، أو ما يُعرف بـ"قوتها الناعمة".
غير أن صحيفة "الغارديان" كشفت بعد بضعة أشهر فقط من تأسيس المجلس أن أعضاء بارزين فيه أعربوا عن قلقهم من أن السياسات الاقتصادية التي تنتهجها لندن تُهدد طموحاتها في هذا المجال. فبينما تضخ المملكة المتحدة مبالغ طائلة في تعزيز "قوتها الصلبة" من خلال زيادة الميزانية الدفاعية، تتعرض مؤسسات القوة الناعمة الأساسية، مثل "بي بي سي وورلد سيرفيس" والمجلس الثقافي البريطاني والقطاع الجامعي، لتجاهل مالي متزايد.
وليست بريطانيا حالة فريدة في هذا التحول. فمنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، توصّل الكثير من القادة الغربيين إلى قناعة بأننا نعيش مجددا في عصر تسود فيه "القوة الصلبة"، حيث تُمنح الأولوية للأصول العسكرية والدفاعية على حساب أدوات التأثير الناعمة.
ويثير هذا الواقع سؤالا جوهريا: هل باتت هيئات القوة الناعمة مجرد مبادرات رمزية، أم إنها لا تزال تحتفظ بأهميتها الجيوسياسية في عالم يزداد هيمنة بالقوة الصلبة؟
"القوة الناعمة" وجوزيف ناي
كان جوزيف ناي، الأستاذ في جامعة هارفارد، هو من صاغ مصطلح "القوة الناعمة" في عام 1990، ورأي أنها تعني التأثير في الآخرين ليس بالقوة أو الإكراه، بل من خلال تشكيل تفضيلاتهم بحيث يتماهون طوعا مع أهدافك. بحسب ناي، كانت القوة التقليدية، أو ما يُعرف بـ"القوة الصلبة"، في العلاقات الدولية تقوم على الإكراه، حيث تلجأ الدول الأقوى إلى استخدام الوسائل المادية لإجبار الدول الأضعف على الامتثال لرغباتها. ويتمثل ذلك في توظيف الأدوات العسكرية أو الاقتصادية كوسيلة ضغط: التهديدات والعنف والعقوبات ضد الخصوم، مقابل التحالفات والتسليح والاستثمارات مع الحلفاء. إلا أن هذه العلاقات تبقى في جوهرها إجرائية وتبادلية، إذ يمكن أن تلتزم الدول أو تمانع بناءً على ما قد تكسبه أو تخسره ماديا.
لكن الأستاذ ناي رأى إمكانية كسب تأييد الدول من دون إكراه. فإذا كانت أيديولوجيا الدولة القوية وثقافتها ونمط حياتها تتمتع بالجاذبية لدى الدول الأضعف، فقد تنجذب شعوب الاخيرة وحكوماتها إلى تبني مواقف تلك الدولة، بصرف النظر عن النتائج المادية. واستشهد ناي حينها بما عُرف بـ"الحلم الأميركي" في إقناع دول بالاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، أو– بالمقابل– بجاذبية الفكرة الشيوعية التي دفعت العديد من دول الجنوب العالمي للانضواء ضمن الفلك السوفياتي.
كانت أفكار ناي تنسجم مع سياق ما بعد الحرب الباردة، وهو العصر الذي كتب فيه فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير "نهاية التاريخ"، حيث بدا أن الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية الغربية قد انتصرت تحت مظلة الهيمنة الأميركية المطلقة. سوى أن العالم اليوم قد اختلف تماما، بعد مضي 35 عاما وبروز التعددية القطبية وتراجع الهيمنة الأميركية. وفي ظل عودة العلاقات الدولية إلى معادلات القوة الصلبة، بل وربما استمرارها على هذا النحو من دون انقطاع، يطرح كثيرون سؤالا مشروعا: هل ما زالت "القوة الناعمة" تحتفظ بفعاليتها؟